اسلاميات

قصة مريم عليها السلام من النذر حتى ولادة عيسى عليه السلام

في صفحات التاريخ الإنساني والكتب السماوية، قليلٌ ما نجد امرأة نالت على ما نالت به مريم ابنة عمران من مكانة وقدر عظيمين، فهي المرأة التي اختارها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، وجعل لها قصةً خالدةً تتردد أصداؤها في القرآن الكريم، لا لتكون مجرد سردٍ لأحداثٍ ماضية، بل لتكون مصدر إلهام وإيمان لكل من ينشد الطهر والثبات والصبر في وجه المحن، كما أن قصة مريم عليها السلام ليست فقط حكايةً عن امرأةٍ صالحةٍ، بل هي معجزةٌ إيمانيةٌ تتجلى فيها قدرة الله ورحمته، وتحفل بالكثير من الدروس في العفة والثقة بالله واليقين بنصره.

من هم آل عمران؟

آل عمران

إن عائلة عمران من الأسر المباركة التي خصها الله تعالى بالذكر والتكريم في كتابه العزيز، وذلك لما امتازت به من طهارة العقيدة وسمو الإيمان ونقاء السيرة، وقد أشار كثير من العلماء إلى أن النبيين موسى وهارون عليهما السلام كانا من نسل عمران، الذي هو من نسل إبراهيم عليه السلام؛ بينما يذهب آخرون إلى القول إن عمران والد مريم العذراء، وأمها وابنتهما مريم، وكذلك نبي الله عيسى عليه السلام، هم من ذرية آل عمران الذين اصطفاهم الله ورفع منزلتهم وجعلهم من صفوة خلقه، كما جاء في تفسير ابن كثير والطبري.

وقد ورد ذكر آل عمران في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع مختلفة، وهذا يدل على مكانتهم العظيمة في سجل النبوة، ففي الموضع الأول جاء في قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين” (سورة آل عمران، آية 33).

 كما وضع الله آل عمران في مصاف أعظم البيوت النبوية إلى جانب آدم ونوح وآل إبراهيم، معبّرًا عن رفعة شأنهم، أما الموضع الثاني فيتحدّث عن زوجة عمران، والدة مريم عليها السلام، التي نذرت ما في بطنها لخدمة بيت الله؛ إذ قالت:

رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي” (سورة آل عمران، آية 35)،

مما يوضّح مستوى الإخلاص والنية الصادقة التي تحلّت بها هذه المرأة الصالحة، وفي الموضع الثالث يُذكر مريم عليها السلام وابنها عيسى عليه السلام، حيث يقول الله تعالى:

وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا” (سورة التحريم، آية 22)

وهذا الوصف يدل على عفة مريم وطهارتها وكرامة ولادتها لعيسى دون أبٍ، في واحدة من أعظم معجزات الله تعالى.

إقرأ أيضاً  دعاء التوبة النصوحة من المعاصي بصيغ مؤثرة تقرّبك من الله

من هو عمران والد مريم العذراء

ينسب عمران، والد مريم عليها السلام، إلى سلسلةٍ من النسب الشريف التي تنتهي إلى داود وسليمان عليهما السلام، وفقًا لما ذكره الإمام الطبري وابن كثير، إذ يُقال إن اسمه الكامل هو:

عِمْرَانُ بْنُ ياشمَ بْنُ أَمُونَ بْنُ مِنْشَا بْنُ حَزِيقَا بْنُ أَحْزِيقَ بْنُ يُوتَمَ بْنُ عَزَارِيَّا بْنُ أَمْصِيَّا بْنُ يَاوُشَ بْنُ أَحْزِيهو بْنُ يَارْمِ بْنُ يَهْفِ اشَاطٍ بْنُ أَسْتَبِرٍ بْنُ أَبِيَ بْنِ رَحْبَعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا“.

ويتشابه هذا النسب مع ما ورد في الأناجيل بشأن نسب يوسف النجار، خطيب مريم، إذ يتفق الطرفان على الانتهاء بالنسب إلى داود عليه السلام، مما يعزّز وحدة الجذور الدينية عبر الرسالات.

والدة مريم عليها السلام

كانت والدة مريم عليها السلام من النساء المؤمنات الطاهرات؛ إذ نشأت في بيت المقدس حيث انتشر الإيمان والعبادة، وكانت منقطعة عن الدنيا في عبادتها لله، راجية رضاه، وقد انعكس ذلك على نذرها حين حملت بمريم، إذ جاء في القرآن الكريم:

رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا” (سورة آل عمران، آية 35)

وكان هذا النذر دليلاً على إخلاصها وتفانيها في خدمة بيت الله دون انشغال بالدنيا، ويُذكر أن مثل هذا النذر كان شائعًا بين بني إسرائيل، إذ كانوا يقدّمون أبناءهم لخدمة الهيكل، المعروف اليوم ببيت المقدس.

ولادة السيدة مريم عليها السلام

عندما وضعت امرأة عمران مولودتها، تفاجأت بأنها أنثى، إذ لم يكن مألوفًا آنذاك تقديم الإناث لخدمة المسجد، فقالت بصدق وخضوع:

إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيَسُّ الذَّكَرُ كَالأُنثَى” (سورة آل عمران، آية 36)

ومع ذلك، قبل الله تعالى نذرها وجعل من مريم عليها السلام نموذجًا فريدًا في الطهارة والإيمان، ووهبها شرفًا لا يُضاهى؛ إذ نشأت تحت رعاية نبي الله زكريا، الذي كان متفرّغًا لعبادة الله وخدمة الهيكل، فكانت نشأتها استثنائية من كل النواحي، وقد اختلف الناس في من يتولى كفالتها؛ فلجأوا إلى القرعة، فألقى كلّ منهم قلمه في النهر، فكانت آية الله حين سار قلم زكريا عكس التيار، فاختصَّه الله بكفالتها، في مشهد يعكس إرادة الله التي لا ترد، وتكريمًا لمريم بأن تُربّى في كنف نبي كريم.

السيدة مريم والعبودية الصادقة

مريم عليها السلام

نشأت مريم عليها السلام في بيت العبادة، بعيدًا عن الفتن، متفرغة للعبادة والخشوع، وقد ورد في حديث النبي ﷺ، كما رواه البخاري ومسلم، أن الشيطان ينخز كل مولود عند ولادته إلا مريم وابنها عيسى عليهما السلام، وذلك ببركة دعاء أمها وتوفيق الله تعالى.

تمثل قصة مريم تجسيدًا لمعاني الإيمان الكامل والثقة المطلقة في الله والتسليم لقضائه، وهي دليل على أن الله لا يُفرق بين ذكرٍ وأنثى في ميزان الطاعة والعبودية، وأن من شاء الله له الخير والرفعة، فإنه يُكرمه بما يعجز عنه الناس.

إقرأ أيضاً  أدعية الطواف pdf كاملة

قصة حمل السيدة مريم بعيسى عليهما السلام

كانت السيدة مريم عليها السلام مثالًا نادرًا للتقوى والعبادة والخشوع، إذ ازداد شغفها بالتقرب إلى الله ففضلت الاعتكاف في محراب خاص داخل بيت المقدس، متخذة جهةً شرقيةً بعيدةً عن الناس لتتفرغ لعبادة ربّها، كما جاء في قوله تعالى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا” (سورة مريم، آية 16)

انقطعت عن الناس تمامًا، واتخذت حجابًا يفصلها عن العالم، فتلقت لقب البتول؛ أي المنقطعة عن الدنيا والزاهدة فيها.

وفي هذا الاعتزال، نزل عليها روح القدس، جبريل عليه السلام، بأمر من الله تعالى، متجسّدًا في هيئة بشرية، فدخل عليها بغتة في محرابها، فأصابها الخوف والذعر، وظنّت به سوءًا، لكنها استجارت بالله فقالت:

إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنَكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا” (سورة مريم، آية 18).

فأجابها جبريل مطمئنًا بأنّه رسول من عند الله ليبشّرها بغُلامٍ طاهرٍ، فقال:

إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا” (سورة مريم، آية 19)

أبدت مريم استغرابها من إمكانية أن ترزق بولد دون أن تتزوج أو يمسسها بشر، فقالت:

أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا” (سورة مريم، آية 20).

فأجابها جبريل أن هذه إرادة الله تعالى، وأن خلق غلامٍ من غير أبّ هو آية من آياته للعالمين، فقال:

كَذَلِكِ، قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا، وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا” (سورة مريم، آية 20)

فنفخ جبريل عليه السلام في جيب قميصها، فدخلت النفخة إلى رحمها بإذن الله، وحملت بالسيد المسيح عيسى عليه السلام، وكانت هذه المعجزة دليلًا قاطعًا على أن الله إذا أراد أمرًا، فإنه يقول له “كن فيكون“، كما بين المفسرين مثل ابن كثير والطبري.

قصة ولادة السيد المسيح عيسى عليه السلام

صورة نور في السماء

بعد أن ظهرت علامات الحمل على السيدة مريم، العذراء الطاهرة، شعرت بالخوف من نظرات الناس وكلامهم، فاختارت الخروج من بيت المقدس إلى مكان بعيد، حيث لا يعرفها أحد، حتى لا تكون موضع شك أو اتهام.

قال الله تعالى: “فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا” (سورة مريم، آية 22).

وأثناء رحلتها الشاقة وفي لحظات الولادة العصيبة، اشتد بها الألم وداهمها المخاض تحت جذع نخلة، حتى قالت في شدة ألمها النفسي والجسدي:

“يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا” (سورة مريم، آية 23).

وكانت أمنية الموت تعبيرًا عن شدة آلامها، ليس فقط بسبب الولادة، بل بسبب خشيتها على سمعتها وشرفها الطاهر من ألسنة الناس، لكن العناية الإلهية لم تتركها وحدها في محنتها؛ فقد ناداها صوت من تحتها، ابنها عيسى عليه السلام، فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا قائلاً:

أَلَّا تَحْزَنِي، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا” (سورة مريم، آية 24)

أي جعل الله بجوارها نهرًا صغيرًا من الماء العذب لتشرب منه وتنتعش، ثم جاءها الأمر الإلهي العجيب:

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا” (سورة مريم، آية 25).

وفي هذا الموقف تظهر الحكمة الربانية، إذ أمرها الله بأن تهزَّ جذع النخلة رغم ضعفها، فذلك يُعلّم البشر أهمية السعي واتخاذ الأسباب حتى مع المعجزات، وبعدها هدأت نفسها بعدما رأت عناية الله بها، وأمرت بعدم الحديث مع الناس، إذ أن من سنن بني إسرائيل في النذر الامتناع عن الكلام؛ فقال الله لها:

فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” (سورة مريم، آية 26).

عمر السيدة مريم عند ولادة السيد المسيح عليه السلام

لم يُذكر في القرآن الكريم أو في الأحاديث النبوية عمر محدد للسيدة مريم عليها السلام حين ولدت النبي عيسى عليه السلام، ويتوافق ذلك مع التقاليد المسيحية التي لم تُوضح هذه الجزئية، ويُقدّر بعض المؤرخين عمرها حينذاك بين 12 و16 عامًا، وهو ما كان مألوفًا في المجتمعات الشرقية القديمة من حيث زواج الفتيات في سن مبكرة.

إقرأ أيضاً  قصة عن الأخلاق والفضائل للأطفال وأبرز صفات النبي والصحابة

المعجزة الكبرى: كلام عيسى عليه السلام في المهد

مصحف على حامل

عندما عادت مريم إلى قومها وهي تحمل مولودها، صُدم الناس ووجهوا إليها أشد الاتهامات، فقالوا لها متعجبين:

يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا” (سورة مريم، آية 27)

وذكروا شرف نسبها الطاهر، فقالوا:

يَا أُخْتَ هَارُونَ، مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا” (سورة مريم، آية 28).

كان الموقف صعبًا، وكأنها تُحاكم ظلماً أمام مجتمعها؛ ولكن الله أمرها ألا تردِّ بل أن تُشير إلى الطفل، فاستغرب الناس وقالوا:

كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” (سورة مريم، آية 29)

وهنا وقعت المعجزة التي لم يسبق لها مثيل، إذ نطق الطفل عيسى عليه السلام بكلامٍ واضحٍ، قائلاً:

إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا” (سورة مريم، آية 30).

 وتوالت كلماته التي شملت العقيدة والعبادة والأخلاق، مؤكداً أنه عبدٌ لله وليس إلهاً، وأنه أُرسل رحمةً للعالمين، وقد ختم البيان الإلهي بالتحذير من التفرق والخلاف حول هوية عيسى عليه السلام، إذ قال الله:

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ” (سورة مريم، آية 34)

مشيرًا إلى خطأ من زعم أنه إله أو ابن لله.

السابق
قصة خيالية قصيرة للأطفال معبرة وممتعة تحمل دروسًا رائعة